Friday 18 December 2009

نيران أفلتت زمامها ... و العالم بدأ يحترق ...

نيران أفلتت زمامها ... و العالم بدأ يحترق ...

عالمنا الحديث على نار، والنار إما أنها تطهر أو تنقي أو تدمر........... ، لقد جاز العالم في نيران من قبل ، لكنها كانت محدودة الى حد ما . أما اليوم أصبح عالمنا جواراً مشتركاً ، يمكن الوصول إليه كله في ساعات بالطيران ، أو ثوانٍ على أمواج الأثير . وهذا التقرب يزيد أنتشار التوتر و النزاع .

نحن نسأل أنفسنا مرة بعد أخرى لماذا ؟
ما هو السبب ؟
ماذا حدث لعالمنا ؟
هل نستطيع أن نعالج الأمور ؟

لو عرف الأنسان أفضل ، لفعل الأفضل ......
أن للمثقفين ثقافة عالية، دوافع داخلية ، وشهوات ، ومطامع قهرية ، و نزوات قوية ، و شهوة التسلط ، لا يمكن أستئصالها بأية وسيلة ثقافية معروفة .
لكن طالما الناس أنفسهم باقون ، سيقومون ليخلقوا أحياء أخرى على شاكلة القديمة .
بل في الواقع نجد عدداً من أكبر مشاكلنا الأجتماعية التي نواجهها اليوم ، قائماً في الأحياء التي تعج بالوفرة والرخاء . و قد بدأنا ندرك أن المشكلة أعمق من البيئة السيئة . و أن مشاكلنا هي فوق طاقتنا ، أجل أن اللهب تلحس كل ما حولنا في العالم – و ها السقف يكاد ينهار – وها الأنسان في نار مضطربة أفلتت زمامها ، وخرجت عن سيطرته .

النار الأولى :

نار تفجّر السكان .

لقد أصبحت نار تفجّر السكان تحيّر أعظم جبابرة العقول بيننا .أن أزدياد السكان مرعب ، و لقد حلل المؤرخ البريطاني الأصيل أرنولد توينبي هذه الورطة ، فذكر بأنه يعتقد أذا حدثت حرب نووية ، فسيبقى عدد قليل جداً ، ليبقوا على الحضارة . أما أذا لم تقم حرب نووية ، فسيحيا على هذا الكوكب عدد من الناس أكثر بكثير من اللآزم ، بحيث يجعلون الحياة على هذا الكوكب لا تطاق ، بل و مستحيلة . أن الأحصائيات تذهلنا ، أذ نأخذ في الحسبان الزيادة الهائلة في المواليد عن الوفيات .
لقد زاد سكان العالم بشكل مدهش ، بحيث أن ثلاثة بالمائة من كل الناس ، الذين عاشوا على الأرض منذ فجر التاريخ ، يعيشون في العالم اليوم . و من سنة 2000 فصاعداً تنفجر الأحصائيات بشكل لا يوصف .
و نتائج هذا الأنفجار هائلة خيالية . وبهذا يمكننا أن نتصّور المستقبل المروع الذي أمامنا ، ما دامت الطبيعة البشرية كما هي ، أذا ظل هذا الأنفجار ينفلت بغير زمام .
أن العالم الآن يواجه مشكلة حياتية ، الى جانب مشكلته السياسية . هل نستطيع أن نحشد الأرادة، والحكمة ، والعطف ، بحيث نكون في مستوى هذه المشكلة المتفاقمة بإنفجار السكان ؟ لا يمكن لأي مشروع حاضر أو مستقبل على مستوى أجتماعي أو غيره أن يفيد فائدة تذكر في حل هذه المشكلة ، بتقسيم الثروة أن كان هناك عدد من الناس أكثر من الثروة التي تقسم . أذاً لقد أصبح الناس أنفسهم ، سلاحاً يؤدي بالنتيجة الى أفنائهم . و أصبحت القوة الجنسية أحدى النيران التي أفلتت زمامها .


النار الثانية :

نار الجرائم والإباحية و التعدي .

يعلمنا الكتاب المقدس أن الخطيئة هي التعدي على الشــريعة ، ( 1 يوحنا 3 :4 ) . هـــذه الكلمــة " تعدي " يمكن ترجمتها " إباحية " و هي مخالفة القانون ، و الفوضى ، والتمرد . و قد أشار المسيح الى أنه أذ يقترب الناس من نهاية التاريخ ، سيكون هناك عصيان عام ، وتمرد شامل على القانون والنظام . وها نحن نرى في وقتنا الحاضر التمرد و الفوضى و مخالفة القانون منتشرة على نطاق واسع ، لم يعرف في العالم من قبل .
هوذا الأبناء يتمردون على والديهم ، حتى صار كثيرون من الآباء يخاقون فعلاً من أولادهم . و الشباب يتمردون على معلميهم . وطلبة الجامعات يتمردون على سلطاتهم الأدارية . وهناك محاولة منظمة للحط من شأن رجل البوليس ، والأستهزاء به ، و تحقيره . وهذا جزء من عدم أحترام القانون و النظام .
يجب أن يخضنا أن تكون الجريمة المنظمة ، هي في كثير من بلدان العالم ، أكبر عمل للناس اليوم . لقد فاخر أحد كبار البلطجية منذ وقت قصير مضى بأن " الجريمة المنظمة هي أكبر من حكومة الولايات المتحدة " .
تستنفذ الجرائم مبلغاً أجمالياً يقرب من عشرة بالمائة من الدخل القومي للولايات المتحدة ، تكون فعلاً دولة داخل دولة. و هي تكلف أكثر من كل البرامج الثقافية و الأصلاحية مجتمعة .
أن الجرائم المنظمة بوكلائها ، و أوغادها ، وبلطجيتها ، وعملائها ، تلك على الأرجح عدداً من أكبر مدن العالم . و بالأضافة الى ذلك هناك الجرائم غير المنظمة ، وهي رديئة كالجرائم المنظمة ، أن لم تكن أسوأ .
تزداد الجرائم بسرعة هائلة ، معها صرنا الآن أقرب الى العصيان و التمرد والفوضى العلنية . لقد أصبح خطراً أن تمشي عالباً في أية مدينة بعد الظلام . وفي بعض المناطق يعيش الناس في خوف و رعب . كأن نحساً شؤماً أو قوة فائقة الطبيعة قد حلت و أنفلتت من قيودها . لقد أنقلبت شوارع مدننا الى غابات للرعب ، و السلب بالأكراه ، و أغتصاب النساء ، والقتل . وها هي ضربة الأجرام تهدد بشق مجتمعنا . و أذ تزيد نسبة الجرائم تنهار الأساسات الخلقية للأمة .
و قال رئيس البوليس في أحدى مدننا الكبرى مؤخراً : أن الجريمة تدفع بكل تأكيد ، وأضاف بأن أكثر من نصف المجرمين جميعاً ، يطلق سراحهم عاجلاً أو أجلاً . معضمهم لا يلقى القبض عليهم ، والذين يقبض عليهم ، يصعب على البوليس أثبات أي شيء عليهم يقنع الحاكم .
ما هو الجواب لمشكلة الجريمة ؟ هل هو عمل بوليس أكثر ، أو ثقافي أكثر أو عقاب أشد ؟ لماذا لا تكون أمتنا ، التي هي أكثر الأمم رخاء في التاريخ ، زعيمة العالم في الجريمة ؟
لقد علمّنا الناس في العقود القليلة الماضية ، أن الأخلاق نسبية ، وها نحن الآن نحصد النتائج . أن ميل النظام الثقافي ، و الحاكم ، و الأتصالات الجماهيرية ، كثيراً ما تتجاهل ضحية الجريمة ، وتدلل المجرم . و في بعض الحالات كثيراً ما نصور المجرم كبطلاً . لقد وجدت القيمين على تنفيذ القانون في البلاد بأسرها في حالة قنوط ، فهم يشعرون أن المحاكم لا تتعاون معهم . و أحصائات الجرائم فلكية – تنجيمية . و الموكلون على تنفيذ القانون ، ليس لهم المال ولا الموظفون الذين يكفون لضبط و لو جزء من المجرمين . و يبدو أنه لا يوجد أحد يملك الجواب . هذه أيضاً نار أفلتت زمامها .


النار الثالثة :

نار التفرقة العنصرية.

ذكر عالم أجتماعي شهير مؤخراً أنه يعنقد بأن حرباً قومية عنصرية مريرة ، ستنشب في السنوات القليلة القادمة .
لا شك أن التوتر العنصري يزداد في العالم . و هو في بعض المناطق قد بدأ بحرب تحت الأرض .
يحدث في بعض المناطق أن الأنسان أذ يولد أبيض أو أسود أو ينتمي لدين آخر غير دين الأغلبية ، تفرض عليه أثقال لا تطاق ، في حين أن أولئك الذين يولدون صدفة في صف الأغلبية الحاكمة ، يتمتعون بمزايا لم يكسبوها دائماً ، ولا يظهرون أي تقدير لها .
فالكراهية ، والتميز، ومقاومة الذين يختلفون عنا ، أو يعملون بطريقة مختلفة من عن أعمال الفريق المتسلط ، تبدو سمات عامة و متفقة مع الطبيعة البشرية ، تتخطى الحواجز القومية . و قد لاحظت هذا الحقد العنصري في كل مكان تقريباً . كما لاحظت التمييز القومي بين أمة و أمة، وشعب وشعب ، منتشراً بين جميع شعوب الأرض في كل القارات .
ما أكثر الرياء في موضوع التعصب القومي و العنصري ، حتى ليصعب على الأنسان أين يبداء. لقد علم المسيح بكرامة الأنسان ، وأمكانية أخوة الأنسان في نفسه ( المسيح ) و حيثما يوجد تمييز ، نرى المسيح يعمل بسيفه مقطعاً الكراهية و عدم التسامح يقول الكتاب المقدس صريحاً أن الله لا يحابي الوجوه . هذا يقطع نظرية التفوق الجنسي و القومي ، و يجعل كل الناس متساوين في نظر الله . هذا الموقف الكتابي يؤدي الى خلق حالة عدم الرضى ، بين أولئك الذين يشعرون أن التمييز موجه ضدهم . كما أنه يخلق شعوراً بالذنب عند الذين يمارسون التمييز .
لا يخبرنا الكتاب المقدس أين بدأ أختلاف لون جسم الأنسان . هناك من يظنون أن القبائل بدأت بأبناء نوح الثلاثة ؟ لكن لا دليل من كان من هؤلاء الأبناء أسود اللون ، و من كان أبيض اللون.
حيث يشتد التمييز ، ترى الناس مقيدين بالتقليد . كيف نستطيع أن نحل هذه المشكلة الوطنية و العالمية الكبرى ؟ حتى الأحمق يستطيع أن يحل المشكلة العنصرية بالتشريع وحده .
و أن التشريع وحده لا يستطيع أن يحقق ذلك فلا بد أن يصدر الأمر نهائياً من القلب . ولقد أصاب كبد الحقيقة . فأن الأمر يتطلب محبة ، وتفاهم ، وأحتمالاً ، وصبراً من جانب الجنسين .
و نتقبل المحنة في قلوبنا ، أو ستظل التوترات العنصرية بتفاقم ، والمطالب العنصرية تتلاحم ، والدماء تسفك ، و يمكن أن تصبح المشكلة العنصرية ناراً أخرى أفلتت زمامها .


النار الرابعة :

نار العالم غير المنضبط .

من الحقائق الساخرة ، أن العلم المكرس لحل مشاكلنا ، قد اصبح في ذاته مشكلة . لقد أعطانا العلم الضوء الكهربائي ، السيارة ، والطائرة ، و التلفزيون، و الهاتف على أنواعه ، الكمبيوتر ، والتواصل على الأنترنيت ، لكن العلم أعطانا أيضاً القنبلة الذرية ، والقنلية الهيدروجينية .
أننا نستطيع أن نستخدم السيارة للفائدة في التنقل والتنزه ، لكن الجانب الآخر من العلم يروي قصة عشرات الألوف من الناس الذين يموتون بحوادث السيارات كل سنة .
عندما فتت العلماء الذرة ، و أطلقوا قوتها النووية ، كانت أول آثار هذا الأكتشاف العلمي العظيم، إنزال الإلم والموت عى هيروشيما و ناغازاكي .
أن مشكلة العلم تقوم في سؤ إستخدامه ، فبركة العلم تنقلب لعنة عندما ننحرف به . ولأن الأنسان هو هو بعينه فأن الأنتصارات العلمية تستخدم غالباً للتدمير أكثر منها للتعمير . و لأن أخلاقنا لا تباري عقولنا ، فأن سؤ أستخدام العلم يفوق بكثير حسن أستخدامه .
فما لم يلحق تقدم الأنسان الخلقي بتقدمه العقلي ، لا نستطيع أن نرجو حلاً للمشاكل التي فرضها العلم . و أن كان العلم قد حقق آخر ما عنده في التدمير ، فأنه لا يزال ضعيفاً و عاجزاً أمام مشاكل الحياة الحقيقية الكبرى .
أن التقدم في العلوم يضاعف معلوماتنا كل عشرة سنين . وأذ يتأمل العلماء في المستقبل تزعجهم طاقات للشر التي قد تنشأ من تطبيق ما يتوصلون إليه . و ها هي الأبحاث البيولوجية تختمر و هي تخلق و تنمّي بوسائل تتداخل مع العوامل الطبيعية ، يمكنها أن تدمر أو تغيير تقريباً كل ناحية من نواحي الحياة البشرية التي نقدرها .
و من بين مشاكلنا المعقدة التوق العام للسلام ، الذي تهدده دائماً حرب نووية و أن بلوانا حرجة ، مع كل محاولة بذلناها للتخفيف منها بالتقدم العلمي ، أنما نجحنا في تجسيم أخطارنا . فقاذفات القنابل مضادة لها ، ولكن لا بد من أن هذا البيت الألكتروني المصنوع من كرتون يصل الى نقطة معها لا يمكن البلوغ به الى درجة أعلى ..... ترى هل وصلنا من قبل الى ما هو أبعد من اللآزم في البحث عن السلام عن تجميع المخاطر ؟
أذا اردنا أن ننقذ أنفسنا مما أنتجته عقولنا ، فخير لنا أن نسجل بوضوح نفوسنا تحت الأنظباط وأن نبدأ بجعل هذا العالم مأموناً للحياة فيه .
و أصبحت معرفة الأنسان تفوق حكمته ، فهو يخاف مما يعرفه . أن عصر الأنسان الآلي أصبح يهدد كل ناحية من كرامة الأنسان ، وشخصيته ، و فرديته . و هذه أيضاً قد صارت ناراً أفلتت زمامها .


النار الخامسة :

نار المحنة السياسية .

قال سياسي أوروبي مؤخراً " أن أستطاع الشيطان أن يقدم علاجاً شافياً لمشاكل العالم فأني بكل سرور أتبع الشيطان " و هذا بالضبط ما أنبأ الكتاب المقدس بأنه سيحدث يوماً . معندما يعجز الأنسان عن حل مشاكله ، سيظهر ضد المسيح بسحر و مهارة لم تعرف من قبل . و سيتبعه كل العالم بل و يعبدونه .
أن العصر الذي تحطمت فيه التيجان و أنهارت العروش الكبرى هو نتيجة الحرب العالمية الكبرى 1914- 1918 و بدأت الديمقراطية تزدهر ، لكن أزدهرت الدكتاتورية أيضاً . و الكل يذكر ما حصل و يحصل ، و مع ذلك فأن الحرية التي نراها اليوم أقل من كل عصر مضى .
و قد تغلغل التقلقل في الجو السياسي المتغير في العالم كله حتى أصبح العالم اليوم يغلي سياسياً في مرجل . و ها هي الأضطرابات ، والمظاهرات ، و الثورات تحدث في ناحية ما كل يوم تقريباً . وحتى أصبح ملايين من العالم ميالين للجلوس والبطالة ، والأحتلال بوضع اليد ، و بالتظاهرات و الأضرابات ، للحصول على ما يريدون و خاصتاً في بريطانيا و أميركا عالم غير منضبط .
أنه ما من دولة أو حكومة أبتكرها أنسان يمكن أن تزدهر الى الأبد . و ما من أمة عظيمة غلبت حتى دمرت نفسها . أن الجمهوريات ، والمماليك ، و الأمبراطوريات ، كلها تحيا حياتها المتقلقلة و غير المستقرة تم تموت .
و ها نحن نرى الآن في أميركا الديمقراطية أوشكت أن تتطرف و تمضي مع الوحشية ، والحرية قد أصبحت أباحية و فساد . ها هو القانون الخلقي و قد أصبح في خطر الهجر حتى من المحاكم نفسها . الى أية درجة يمكننا أن ننتظر مناعة تحمينا من ناموس التقهقر و النكوص على الأعقاب ، المحتم وقوعه على الشعوب عندما تتحدى شرائع الله ؟
هذا أذاً هو المشهد العصري الدولي لمشاكل السكان ، و العنصرية ، و الشيوعية ، والعلم ، والسياسة. هذه مشالك المعقدة التي تجعل شباننا و شاباتنا يعيشون حيث تقيد حرياتهم الشخصية بكل التشريعات التي تعمل على ضبطها و الحد منها ، و كلما صار العالم أصغر ، صارت مشاكلنا أكبر ، صارت حريتنا تختفي و مخاطرنا تتزايد . و ما يزال البلاء و الخطر في أنتظارنا مستقبلاً و ليس لهذا الجيل الحاضر من الشبيبة أن ينتظر سوى الأزمات و سفك الدماء، والحرب ، والبغضة . و الشراهة والشهوة ، و الكفاح ، كلما حاول العالم أن يتكيف بدون جو السلام .
أن العالم العصري يسير وسط نكبات محيّرة و مآزق مربكة . فبينما صرنا نعرف عن الأقتصاديات أكثر من أي وقت مضى ، أذا بالعالم يقاصي من الجوع و الفقر أكثر من أي عصر مضى . و بينما نعد برامجنا للوصول الى القمر بسرعة أذا بنا لا نزال عاجزين عن حل المشاكل الأساسية على الأرض . أن سيف الحرب و الثورة معلق فوق رؤوسنا كسيف دموقليس. و أن كانت علوم طب الأمراض العقلية و العصبية و النفسية ، تعدنا بشخصية كاملة ، إلا أننا نرى أنهيارات عصبية و أمراضاً عقلية أكثر من كل وقت مضى .
ما هو هذا البلاء؟ ما الجواب لمشاكلنا ؟ أن الأنسان بدون الله يصبح أسوأ من زهرة فصلت عن غصنها . نحن ننسى أننا محدودون لقد أستعرضنا غرورنا الى شفير النهاية المحزنة . و المشكلة التي أمامنا الآن هي : هل نستطيع أن نشفي أنفسنا ، و نصفيّ عقولنا ، ونستعيد كياننا ، و نغير أتجاهنا ، قبل فوات الأوان ؟
يتفق معظم الخبراء ، والمحللين ، والمؤرخين ، والعلماء ، والفلاسفة ، و الساسة المعاصرين ، أن الأنسان مريض ، لكن السؤال الخطير هو :
هل جاوزنا أمكانية الخلاص ؟
هل أصبحنا دون رجاء ؟
يقول البعض من أكبر جبابرة العقول عندنا فيما بين أنفسهم بأننا قد جاوزنا نقطة أللارجوع .
هؤلاء الناس الذين يسألون هذه الأسئلة ، ويعبرون عن مخاوفهم المشؤومة هم الخبراء ، وليسوا مجرد عامة الشعب . و من مظاهر أنحطاط الثقافة المميزة ، هو أن لا يعي عامة الشعب ما يحدث ، و أولئك الذين يقرأون علامات الأنحطاط و الأنحلال ، هم وحدهم الذين يوجهون هذه الأسئلة التي لم تجد لها جواباً بعد .
أما الرجل العادي فهو مستريح في حالته الراضية ، ولا يبالي بشيء حوله ، و كأنه سمكة فضية مخبأة في غلاف مجلات متروكة تتحدث عن أحوال العالم فهو لا يسأل أية أسئلة، لأن الفوائد الأجتماعية المقدمة له من الحكومة تمنحه ضماناً كاذباً. هذه هي ضربته و مأساته .
أن الأنسان العصري متفرجاً على الحوادث العالم ، يشاهدها على شاشة تلفزيونه ، دون أن يحسب نفسه متورطاً فيها ، و هو يلاحظ حوادث عصرنا المشؤومة تمر أمام عينيه و هو يحتسي البيرة في كرسي مريح . و يبدو أنه لا يدرك ما يحدث حوله ، فهو لا يعرفأن عالمه يحترق بالنار ، و أنه على وشك أن يحترق فيه .


النار السادسة :

نار الجنس والدعارة و القذارة و الأنحراف الخلقي و الخيانة .

منذ وقت ليس ببعيد ، كنت أسير مع صديق لي في شارع ، و رأينا مطربة و ممثلة تدخل في سيارة ، و قد تجمع حولها بعض المارة يراقبونها ، و طلب منها عدد من المصورين أن تنزل من السيارة ليلتقطوا لها صوراً أفضل . ولم أدعنت لهم ، بدأوا يصيحون : " أنزلي ثيابك من فوق ، حتى يظهر الصدر ، فأن المحررين لا يمكن أن ينشروا الصور ما لم تفعلي ذلك " .
هذا التأجيج اللإ أخلاقي يغزو كل ناحية من نواحي حياتنا في هذه الأيام ، و لا يسلم منه أحد . فالتشديد من مطبوعاتنا ، و في معظم حفلاتنا ، وعلى شاشات التلفاز ، وعلى صفحات الأنترنيت، هو على الجنس . بل حتى رجال الكنيسة أنفسهم ، قد فشلوا في تحديد موضع السبب، أو تقديم العلاج لداء الأنسان هذا ، صاروا الآن يتكلمون عن أخلاق جديدة تناسب عصرنا ، لكن أخلاقهم الجديدة المزعومة ، ليست سوى فساد و قد لبس ثوب العصر .
أن الدليل على الأنحلال الخلقي يبدو واضحاً في مجتمعنا في أية ناحية نتطلع إليها . أن التاريخ الخلقي سيعيد نفسه ، و أن هذا الأنحلال الخلقي عينه ، سيكون من خصائص العصر الذي يسبق مباشرة نهاية التاريخ كما نعرفه .
أن الشعب قد قرر أن الخطيئة هي شيء وهمي الى حد كبير ، ولقد أستهوانا علم النفس ، الذي يعتقد بأن الأنسان هو نتاج وراثة ، وضحية بيئته.
و قال أحد السادة : " لقد زرعنا اسنان تنين العاطفة العلمية الكاذبة ، و قد نبت من الأرض لجيئون يحمل الخناجر و السكاكين و سلاسل الدرجات" من الواضح جيداً أن هناك سيئاً مفقوداً .
هل يمكن لأحد أن ينكر أن الملاهي و الصور المتحركة قد أمست أقذر من أي وقت مضى؟ لكنهم لا يسمونها قذرة ، بل يسمونها واقعية . كذلك البرامج التلفزيونية القذرة يسمونها واقعية . لماذا نجعلهم يضلولنا ؟ لماذا نهز رؤوسنا بشكل قبيح كل يوم ، عندما يقولون لنا أن القذارة ما هي إلا مجرد صورة من الفن الجريء ، و أن الأباحية هي في الحقيقة تعليق أجتماعي ؟ .
في وجه هذه الدعارة التي تلقى مصادقة شرعية ، يبدو الضمير العالمي مشلولاً ، و أخطر من تزيفنا في الفن ، والنشر ، والصور ، و الإنترنيت ، الأنحطاط في مقايسنا الخلقية ، و تبليد طاقتنا كأمة في موقفنا من الغضب الشريف للكرامة والبر .
يبدو أننا قد فقدنا الأحساس بعربدة المسرح ، و تمجيد المجون والسخرية . و غرق الجيل الصاعد في أعمال العنف و التشاؤم ، والتلذذ بالقسوة و ضروب الجنسي ، الذي يطبل به ويزمر في غرف الأستقبال ، بل حتى في الحضانة عن طريق التلفزيون .
أننا نقف كالخرس أمام المطبوعات السافلة البذيئة و صفحات الأنترنيت التي تنتشر في بيوتنا ، وتملأ قوائم مطبوعات أعظم الناشرين ، والروايات الفاسدة التي تخص بيوت الدعارة .أنها وقائع يجن أن يخجل منها علم كل أمة تقريباً تحت الشمس .
لقد كانت دائماً و أبداً سمة ذبول الحضارة الأنصراف المذهل للجنس . فعند يفقد الناس طريقهم ، و غايتهم ، و أرادتهم ، و أهدافهم ، وإيمانهم ، يذهبون وراء " الزنى " كما فعل العبرانيون قديماً.
و تلك صورة أنحراف لا تتطلب تفكيراً ، و لا أخلاقاً ، ولا ضابطاً . لقد قال لي واحداً من أكبر مؤرخي العالم اليوم " أن الأنحلال الأخلاقي ، سيدمرنا في الأعوام القليلة الباقية .
لقد تورط العالم في الجنس و أمتلأ به ، بحيث أصبح يسيل من كل مسام حياته الوطنية .على صفحات الأنترنيت نرى الأشخاص من الجنسين يصبون فيضاً من الكتابات المنحرفة ، القبيحة ، بل الفاجرة ، فتجري سيولاً كما من مجرور ، أو مجرى مراحيض مكسور .
أصبح الجنس صفحة الغلاق على كل الصحف و في كل مكان .
و السؤال هو ، هل حرية الكلام والنشر تتضمن الحرية لأفساد عقول الناس عن طريق الأتصال للجماهير عبر صفحات الأنترنيت ، و بذلك تثار كل صور من صور الأنحلال الجنسي والفساد الخلقي ؟
في مدننا قوانين تمنع طفح المجاري و الخزّانات و البالوعات ، فلماذا لا تكون لدينا قوانين تمنع الدعارة والفحشاء ؟
لقد حاول عدد كبير من الزعماء الأبطال ذلك ، لكنهم تعثروا حتى على تعريف كلمة " الفحشاء " . و أن كنا لا نستطيع أن نتفق على مقياس طول القدم ، فذلك لأننا فقدنا مقياسنا الصحيح للباردة. و ما من أحد أستطاع قط أن يحسّن مقياس الباردة الأخلاقي ، الذي أعطى للأنسان في الوصايا العشر .
الدعارة هي أي شيء يصور الفساد والعهر بشكل يساعد على إيجاد الأفكار الفاسدة والشهوات. على كل حال ، لا تزال المجاري تفيض ، مدمرة الكيان الخلقي لمجتمعنا ، حتى صارت تهدد مجتمعنا أشد تهديد .
أن الواقعية الفنية المزعومة ، التي هي هدف بعض صناعات الصور و الأفلام الأباحية وصفحات الأنترنيت . تضيف الى قذارة والفساد ، والوساخة ، والدعارة الناشطة ، التي تغذي شبابنا بالسم ، فلا عجب أن يلتهب الشباب بالجنس و هم في السادسة عشر من العمر.
أننا نفسد خيال الجيل كله و ذوقهم . لقد أنحرف الحب الى شهوة سدومية . تقست المشاعر ، حتى أصبحت الجرائم المنزلية ، والفظائح الدولية ، أموراً طبيعية كأنها واقع الحال .
ما من أحد يشك ، أن الشهوات القذرة أصبحت قاعدة لأشباع الحياة. و نحن بهذا نسمح للوسائل الشيطانية أن تسود و تنتصر.
هناك ميل متزايد عند كتابنا للمجاري الأجتماعية ، والبيوت المحطمة من آباء غير أوفياء و أبناء غير محبوبين ، وغرف العهارة والفجور ، وبيوت الدعارة ، وأوكار المجرمين ، وسجون البغضاء ، و المجرمين العائدين ، وغرف القضاة الخائنين ، و نادي السياسين الخونة ، و المغامرات الجنسية ، وستاريوهات المدن ، وأغتصاب النساء بالأكراه ، وعشق الزناة والزواني، ذوي الشذوذ الجنسي ، والعاهرات ، والعشيقات ، والصبيان اللوطيون . وعصارات الحب التي تهيج الشهوات الجنسية ، وأمثالها من مثيرات هزات الجماع ، تعد بطرق مغرية مضللة ، وتقدم بوسائل غاية في الأخراج و الأغراء .
أن أحد أعراض تدهور الحضارة هو أنحلال الجنس البشري خلقياً ، بحيث يصبح الرجال أكثر أنوثة ، والنساء أكثر ذكورية ، ليس فقط في خصائصهم الطبيعية بل بالأكثر في أخلاقهم و سجاياهم الأساسية .
مع هذا الأنحلال الأخلاقي ، يسير جنباً الى جنب صورة من الأنحراف الأخلالقي و الضلال عن الحق ، بشكل متزايد في مجتمعنا لدرجة معها تظهر الخطايا القديمة كأنها فضائل ، الكذب يصبح الحقيقة . ترى فتاة نصنع صفحة على شاشة الأنترنيت و تضع أسمها الكامل و صورة ليست لها لثلوت أسم عائلتها و تجعل لكيانها النظيف سجل أسود في غرف المخابرات التي تراقب شبكة الأنترنيت و حين تواجه بالحقيقة تكذب ، لتعود وتلغي صفحتها و تفتح أخرى بصورة أخرى و أسم آخر و حين تراها تبكي و هي غارقة بالوحل من ماضيها ، أذا ما قوبلت بهذا انحلال . لكن لا شيء يمكن أن يغير الحقيقة ، و هي أن الله يدعو هذا الأنحراف خطيئة " .... أنهم بلا عذر ... لذلك أسلمهم الله الى اهواء الهوان . لأن أناثهم أستبدلن الأستعمال الطبيعي بالـــ......... على خلاف الطبيعة ، كذلك الذكور أيضاً تاركين الأنتى الطبيعي أشتغلوا بشهوتهم ببعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكوراً بذكور و نائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق .
أن قانون الزرع والحصاد الذي لا يتغير يظل قائماً بطريقة كاسحة. نحن الآن نحصد ضلالاً خلقياً تعيساً ، ونحاول عبثاً أن نجد علاجاً . لكن الزوان ، زوان الأنغماس في الشر قد نما بشكل فظيع منع نمو حنطة الضابط الأخلاقي . و عندما نتحل المبادئ الأخلاقية في المجتمع ، فأول من يقاسي ذلك هو الأسرة .
أن البيت هو الوحدة الأساسية في مجتمعنا ، ولا تكون الأمة قوية إلا بنسبة قوة بيوتها . قد لا يشغل تحطم البيت العناوين البارزة في الصحف ، لكنه يأكل كيان الأمة ويقوضه كما يفعل النمل الأبيض .
نتيجة لنسبة الطلاق والأنفصال و الهجر المتزايد ، يعيش أكثر من 25000000 خمسة و عشرين مليون طفل في العالم بعيداً عن والديهم أو أحد الوالدين على الأقل . لقد أنطلقت دائرة سيئة في حركة مريعة و تحقق ما يقوله الكتاب المقدس " الآباء أكلوا حصرماً و أسنان الأبناء ضرست " ( أرميا 29:31) .
في كل دائرة في حياتنا الأجتماعية نرى القانون الحتمي يعمل في أنقاص أشغالنا الجامح بالجنس. فكثيرون بفعلون شيئاً ليستمتعوا بنشوة ، و أذا بهم يجيدون أنفسهم مضطرين في المرة التالية أن يزيدوا الجرعة حتى ينتجوا نفس النشوة . فلما تقل قوة اللبطة ، يبحثون عن وسيلة جديدة لأعتبارات مختلفة حتى ينتجوا لبطة مماثلة.
و شراهة الجنس تلقي عذاباً بشعور الذنب والندم ، و يرى المنغمس فيها أن أسلوب حياته قد تشبع بالأجهاد العنيف ، و الأنفعالات غير الطبيعية ، والصراع الداخلي ، كما يرى أن شخصيته أو شخصيتها قد تعطلت و أحبطت مساعيها في البحث عن النمو . وتصبح شهواته و شهواتها أنفلتت زمامها . و تكون النتيجة الفشل و خيبة الأمل . و لا عجب فأنه أو أنها بتحديهما لقانون الله و مقياس المجتمع يلقي توتراً قاتلاً لنفسه . و بحثه أو بحثها الدائم لنشوات جديدة ، و لبطات جديدة ، و أختبارات مثيرة ، يجعله أو تجعلها دائماً في قبضة الخوف ، والتقلقل ، والشك والبطل.
أن حالة الشراهة الجنسية التي أضعفت صاحبها بدنياً ، وعاطفياً ، و روحياً ، تجعل صاحبها عاجزاً عن مقاومة الضغط المصاحب لها ، فتراة بالنتيجة ينهار تحت ثقلها ، و كثيراً ما ينتهي به الأمر الى أن يصبح مصاباً عصبياً أو عقلياً أو ينتحر .
و أخيراً ما أوضحه الكتاب المقدس ! (عبرانيين 4:13 ) " أما العاهرون و الزناة فسيدينهم الله " كم يليق بالذين يهزأون بفكرة الدينونة أن يدرسوا آخر أحصائيات عن المواليد غير الشرعية و الأمراض التناسلية . لقد ضربت المواليد غير الشرعية رقماً قياسياً ، و أنتشرت الأمراض التناسلية بشكل وبائي مريع ( السيدا ) في الأمة بأسرها في العالم .
يقول الكتاب المقدس " لا تضلوا ، لا زناة ولا عبدة أوتان ولا فاسقون ولا مأبونون ولا مضاجعو ذكورمع ذكور و أناث مع أناث ....... يرثون ملكوت الله "( 1 كورنثوس 10،9 :6 )
أصبح الشبان والشابات يستسلمون لغرائزهم و أختباراتهم الغريزية الطبيعية ، حتى أحداهم كنت أحادثها قالت لي ليس لدي بعد خبرة في الجنس ، وكأن الأستسلام للغريزة هي خبرة ، كلا يا سيدتي فالحب هو الأهم و تأسيس منزل ويكوني به ملكة هو الأهم و ليس المهم أن تجعلي جسدك لعبة لأي كان فقط لتحصلي على خبرة تدمركي وتجعلكِ بائسة طوال حياتك ِ.
و ما من رادع ، و كثيرون من الناس يتساهلون علناً الآن مع العلاقات الجنسية قبل الزواج .
أن عصرنا نسبية أخلاقية . لكن الكتاب المقدس يفرض علينا دوائر معينة ليس مسموحاً لنا بأن نتفاوض فيها . وفي كل العصور التي مضت لم يحدث أقل ظل تغيير في طبيعة الله ، ولا في موقفه أزاء الخطيئة ، و يعلمنا الكتاب المقدس من بدايته الى نهايته أن الزنى و العهارة خطيئة ، و أن موقف بعض رجال الكنيسة العصريين لا يغيّر هذه الحقيقة .
و عن الخيانة ، أنما لا نترك أنطباعاً بأن الفساد الخلقي هو الدائم الوحيدة للخطر الأخلاقي في حضارتنا ، فقد زادت نسبة الخيانة في مجتمعنا بشكل مزعج .
أن داء الخيانة يسري في كل مهنة ، وينتشر في مجتمعنا بشكل مزعج حتى لاكثر الناس بلادة بيننا.
في كل هذا العصر كانت الأمانة في الأمور الصغيرة و الكبيرة تتناقص في معظم العالم . و الأمانة سراً وجهراً تنجم جزئياً عن الأقتناعات الدينية ، فلّما تزول الحرمات القدسية الدينية ، فأن الرجل والمرأة الشهواني الجسداني يميل للغش والخيانة .


النار السابعة :

نار النكبات النفسية ، التهرب والقلق والفراغ .

لقد أصبح ضغط الحياة العصرية أشد من أن يتحمله أي أنسان ، صار في خطر أن يصبح أستقرائياً أحصائياً آخر في لائحة المرض العقلي المتزايد بشكل مرعب .
أن الجو العقلي الذي يعيش فيه الأنسان العصري ، لغز محيّر . علومنا التقنية تخلق معجزات علمية ، لنكها تفشل في تلبية أعمق أحتياجاتنا . أنها تضع عجلات وأطارات تحت أقدامنا ، لكنها تضع مخاوف و نذر الشر و الفزع في قلوبنا . أستطعنا أن نعيش أطول ، لكننا لم نستطع أن نعيش أفضل . أستطعنا أن ننعم بقسط أكبر من الراحة ، لكن ليس بقسط أكبر من السعادة .
في تقرير الصحة العامة في العالم ، يقاسي ثمانية ملايين شخص من نوع آخر من الأمراض العقلية . يعالج من هذا العدد نحو مليون شخص في أميركا وحدها كل عام . و يشغل المرضى الذين يقاسون من بعض الأمراض العقلية أو النفسية ، ما يربو على خمسين بالمائة من أسرّة مستشفيات الأمة ، وبين كل عشرة أطفال يولدون اليوم ، سوف يكون واحد منهم نزيل أحد المستشفيات ، بنوع أخر من الأمراض العقلية ، و في وقت من الأوقات في أثناء حياتهم .
كثيرون من المرضى عقلياً هم في الواقع مرضى في القلب و النفس . وأمراضهم لا تنطوي على أدمغة فاسدة أو متلفة . فأن الناس لا يفقدون عقولهم أو يحطمون أعصابهم ، بألإنهيارات العصبية المزعومة ، لكنهم يفقدون أنفسهم ! هم يختنقون في عوالم صنعوها لأنفسهم ، في محاولتهم التهرب من العالم الحقيقي .
و الحقيقة المرعبة عن المرض العقلي و العاطفي ، هي غزوة المفزع في جيل الشباب الحاضر الصاعد . فهم الجيل المعذب . و أن نحواً خمسة عشر بالمائة من الطلبة في مدارسهم ، يطلبون معونة علاجية نفسية ، في حين أن ثلاثين بالمائة يحتاجون إليها و يجب أن يطلبوها فعلاً .
ينشغل ملايين من البشر في دفن رؤوسهم في الرمل ، زعماً منهم أن حوادث عصرنا المدمرة غير موجودة في الحقيقة . و هم يحاولون يائسين أن يتهربوا من واقع ضغط الحياة العصرية .
التهرب ليس في ذاته حالة من حالات المرض العقلي ، لكنه محاولة لاشعورية باطنية للتهرب من الحقيقة الواقعية . أن صيغة من السلوك يتبناها الأنسان ، ليتجنب الوقائع و الحقائق الكريهة . ويمكن أن تتخذ صوراً كثيرة . فلزوجة المتضايقة تشتغل نفسها في مهمات شراء مرحة ترويحية، في حين أن غيرها تلجأ الى نوع من الحب الخفي الخائن ، أو الى جلسات غرامية ، كذلك الفتيات التي تعيش في فراغ تلجأ في عصرنا الى الأنترنيت للتسلية ، و لا تعرف بأن هذا هو الشر أذ تتسلل بمشاعر أحد الشبان أو أحداً يتسلى بمشاعرها لأثارة غرائزها فتقول له أنا مبسوطة و ينتهي الأمر و تهرب لتصبح منطوية على ذاتها عائشة لغرائزها التي تسميها أسرار و ترفض مواجهة الحقيقة .
و من أشهر الوسائل للتهرب الإلتجاء الى المسكرات ، التي أصبحت الآن كارثة قومية .
لقد أصبح شرب الخمور من أخطر مشاكلنا الأجتماعية ، وهو أساساً نتيجة محاولة للتهرب من مسؤوليات الحياة ووقائعها . و يمكن أن تكتب مجلدات عن مشكلة أدمان المخدرات . تبلغ كل ليلة ملايين من الحبوب المنومة لمساعدة الشعب على النوم في العالم . هذه المنومات و المسكنات تهدئنا في النهار . و ملايين من الأقراص المنبهة تفوّقنا و توقظنا في الصباح بعد أن تنتهي الأشياء التي تهددنا بالليل .
يقول الكتاب المقدس بأن هذا الهروب من الواقع لا يمكن أن بنتج راحة دائمة . " الذين نهايتهم الهلاك ، الذين إلآههم بطنهم و مجدهم في خزيهم ، يفتكرون في الأرضيات " ( فليبي 19:3 ).
هذا هو عصر القلق ، فمع أن ما لدينا من أسباب القلق ، أقل من وجوه عديدة ، مما كان للعصور السابقة ، يبدو أننا أكثر قلقاً . و مع أن لنا مما ييّسر أمورنا أكثر مما كان لأجدادنا ، إلا أننا أكثر منهم أنزعاجاً . ومع أن لنا من دواعي القلق ، أقل مما كان لهم ، فأننا نفوقهم قلقاً . كانت الأيادي الخشنة علامة الرواد ، أما اليوم فأن سمة الرجل العصري هي الجباه المجعّدة .
كان الرواد يشكون من الإنهيار بسبب الأجهاد البدني ، أما بلوانا نحن فناجمة من زيادة التوتر . و يعزى السبب الأكبر لهذا الى نقل التشديد .
كان أهتمام الأنسان الرئيسي منذ قرن مضى على حياته الروحية ، واليوم أنصرف أهتمامه الرئيسي على مصالحه الجسدية و الوقتية . و يعتقد عدد كبير من الناس ، أننا أذا وفرنا للأنسان الطعام ، والمسكن ، والملبس ، والتعليم ، ووسائل التسلية ، وصلنا به فعلاً الى الجنة الأرضية .
أن أسلوب الحياة العصرية يحول الناس الى ظلال قلقة خالية من المحبة .أن مجتمعنا الأستهلاكي الهزيل ..... الطروب ، المحب للمرح ، الراغب بالسفر في الطائرات ، يخلق أعظم سعادة لأكبر عدد من الناس . و لكن بعكس ذلك أن حياتنا العصرية تقود الى القلق ، والعجز ، وتؤدي أخيراً الى تحطيم ثقافتنا و أنحلالها . هل يمكن أن تكون أحلامنا بأن التقدم المادي يقود في خد ذاته الى السعادة ، مجرد أحلام خيالية ؟؟؟؟؟؟
أن مشكلة الفراغ . قد نظنها مشكلة ، لكن علماء النفس ، وعلماء التحاليل العقلية والباطنية ، وعلماء الأجتماع ، بدأوا يدركون أنها قد تصبح أهم مشكلة تجابه الجيل الصاعد . لقد أصبح الفراع حقيقة واقعة ، أمس الملل مشكلة جديدة كبيرة .
عندما يوجد وقت فراغ أكثر ، و شعورية بالمسؤولية أقل ، تكبر أبعاد مشكلة " ماذا نفعل " ؟؟؟؟؟؟
مع التقدم المتزايد في أنتاج الآلات الذاتية الحركة و الصناعية الكبرى ، سوف يزيد من عدد المتعطلين ، الذين قد أضحوا من أخطر المشاكل الأجتماعية في عصرنا .
فأن النمو المتزايد لأوقات الفراغ ، يمكن أن يزيد الجرائم ، ويزيد عدد البيوت المحطمة ، ويخلق مشاكل نفسية أكثر مما نستطيع علاجها .
يمكن أن يولد سخطاً و تبرماً وقلقاً ، تؤدي بالنتيجة الى تعاسة أفظع ، مما نعانيه الآن مع رخائنا العظيم .
ها نحن نرى هذه الطاقة الأجرامية ، وقد بدأت تظهر بيننا بصورة همجية ، فيما يقوم به الشباب المتعطل عن العمل من تخريب للآثار القديمة . و ها نحن نراه في قاعات الكوكتيل ، حيث يضيع المتضجرون و القلقون ساعات فراغهم المملة . ها نحن نراه في النوادي الليلية ، حيث يشاهد رجال الأعمال الناشلون المتمردون المماؤسات الشهوانية تجري بأساليبها الجنونية الرتيبة، وتترك جمهور النظارة فارغين ، خائبين ، مكتظين بآثارها السيئة .
أن الأمر يتطلب أكثر من ذلك في عصر الحركة الآلية الذاتية الحاضر . وأظن السؤال الجوهري هو ، ماذا يفعل الناس بوقت فراغهم ؟ عما قريب سوف يشتغل الناس ساعات قليلة فقط في اليوم ، ويصبح وقت فراغهم في تزايد مستمر . فأن أنفقوا الوقت في التلفزيون أو على ثفحات الأنترنيت ، أو في آلات اللعب طمعاً في الربح ، عندئذ سوف لا يكون مستقبل الحضارة في العالم صحيحاً أو سليماً جداً .
أن خط سير الحضارة العالمية مستقبلاً ، يتوقف جزئياً على الأقل عما أذا كان الشعب سيستخدمون فراغهم بطريقة إيجابية بناءة . لقد اصبح هذا من أكبر التحديات التي تجابهنا ، وقد تكون مشكلة الفراغ التي نتوقعها في الغد ، أكبر من مشكلة العمل التي نجابهها اليوم ، والمشكلة الكبرى أن الشعب غير مهيأ عاطفياً و لا نفسياً لوقت الفراغ .
أن الحياة سرعان ما تصبح كلها لعباً و لا عمل فيها ، و ماذا سنفعل أذا بوقت فراغنا ؟؟؟؟ هكذا قال شكسبير : لو أصبحت كل السنين أجازات و فرصاً للعب ، يصبح اللعب مملاً كالعمل .
وقال كارليل : " أن حياة السهولة و التنعم ليست لأي أنسان ، ولا لأي إله "
أن خطة الله للجنس البشري ، هب أن يعمل الأنسان و يشتغل ، وهذا كان لخير الأنسان نفسياً و جسمياً و روحياً . فأذا نجحنا في تقدمنا التقني الى درجة التخلي عن هذه القاعدة ، فسيكون هذا خطراً علينا أشد خطر . وقد رأينا من قبل لمحات لما يمكن أن يكون عليه هذا الخطر .